كنت أحلم بالعودة لغزة بقلم : زياد أبوشاويش / مجموعة أنصار القدس
في الساعة السادسة من فجر اليوم التالي للانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة رن الهاتف لأسمع صوت شقيقتي الوحيدة والتي لم أرها منذ 34 سنة رغم كل المحاولات ، وسمعتها تقول بلهفة يا أخي الآن هناك فرصة للحضور للقطاع والطريق مفتوحة والناس تذهب وتعود من والى العريش بدون إذن رسمي ، وتمنت على أن أسارع بالحضور فأخبرتها بأنني سأفعل ، وطبعاً حالت ظروف وثيقة السفر المصرية وانتهاء مدتها تقريباً دون تلك العودة التي حلمت بها طويلاً ، كما واتت ظروف لاحقة حالت دون هذه العودة .
لقد أمضتنا الغربة وتبلدت أرواحنا من فراق الأهل والأحباب ، وكم حلمت بأيام طفولتي ويفاعتي بغزة ، كان كل حديث عن تلك الأيام يترك بصمة حزن ومرارة في نفسي ، كانت غزة بالنسبة لي عنوان الوطن ليس فقط لأنني ولدت وترعرت بها ، بل أيضاً لأنها كانت تعني بالنسبة لنضالنا الوطني بوابة العبور إلى الحلم والمشروع الكبير ، فلسطين التي خلقنا فوجدناها قد تبخرت من بين أيدينا ، وكم حلق بنا الخيال ونحن في ذروة الخطر لينقلنا إلى ربوع وطن لم نعش فيه بل عاش فينا وتغلغل في كل مسامات أرواحنا ، حتى لتبدو فكرة أن يكون المرء غير فلسطيني فكرة غريبة ومنكرة ، ولا يستسيغها العقل أو الوجدان .
لقد مثلت غزة في خاطري وفي عقلي وخيالي ذلك الحلم الذي ننام ونصحو على أمل تحقيق العودة لها لنرى الأهل والأصحاب ، ومرابع لهونا ومرتع أيامنا الأولى بفقرها وحزنها ، وأيضاً ببعض الفرح الذي كان يغمرنا لأقل الأشياء وأبسطها ، كما لزيارة قبر والدتي الذي يمثل بالنسبة لي هماً يقترب من حد القداسة ، والدتي التي غادرتنا دون أن أراها ، وتركت في القلب لوعة لا يعلمها سوى رب العباد .
منذ ما يزيد عن ربع قرن خرجنا خلف زميل لنا توفاه الله في حادث سيارة بمنطقة سبها بليبيا لدفنه في مقبرة المدينة ، وهي مقبرة تقع في منطقة رملية صحراوية حيث الجنوب الليبي بمعظمه صحراء مترامية وهي قسم مهم من الصحراء الكبرى المعروفة ، كانت الريح تصفر ، والرمال تصفع وجوهنا ونحن نغذ الخطى للوصول ، حيث ندفنه ويعود كل منا إلى بيته ، كان الوضع محزنا وممقتاً إلى أقصى الحدود ، تناوبت على نفسي وعقلي بل وأعماق روحي خواطر شتى ، وتصورات ممضة ومؤلمة إلى أقصى الحدود ، كان الرجل المتوفى من خانيونس ومن بيت الاسطل على وجه التحديد ، وكم شعرت بالأسى وهو يوارى الثرى ونهيل عليه التراب ، فقد تذكرت كل شيء عن غزة ، حوارينا وأزقتنا ، فقرنا وجوعنا ، بيوتنا الضيقة ولمبة الكاز ، شح الماء الصالح للشرب وملوحته ، وطابور النساء على صنبور وكالة الغوث ، الهنجر والصحية ، وبؤس الأطفال وصراخهم في حضن أمهاتهم وهن يقفن في الطابور الطويل لانتظار الطبيب ، أو لانتظار الوجبة فيما كنا نسميه الطعمية ، الحمام المشترك وبيت المية المشترك .
تذكرت هذا وغيره من نماذج البؤس ومعها تذكرت نماذج الفرح الكبير عندما يتجمع الخلق للتضامن مع مصاب أو مع غارم ، كما تذكرت حنو الأهل وتوحدهم في الدفاع عن قيمهم وتراثهم وتطلعهم الدائم نحو العودة للوطن السليب ، كان البؤس يوحدنا كما توحدنا الآمال العريضة في غد أفضل ، غير أني تذكرت مع هذا وذاك وأنا أحدق في القبر تعصف به وحوله الرياح الرملية أن هذا الرجل له أهل وأحباب وأقرباء في غزة ، وأنهم لن يروه مرة أخرى والأنكى أنهم لن يتمكنوا حتى من زيارة قبره لقراءة الفاتحة على روحه الطاهرة ، ثم خطر ببالي سؤال آخر أكثر إيلاماً ، كيف سيتمكن أبناء هذا الرجل وإخوته وزوجته من زيارة قبره وهو يدفن مرغماً هنا في هذه الصحراء وعلى بعد آلاف الكيلومترات من وطنه ؟
كان هذا الهاجس يحرق أعصابي ولعله وبكل الصدق والصراحة السبب الرئيسي في مغادرتي ليبيا بشكل نهائي إلى مناطق أقرب لفلسطين وتحديداً غزة . وكان جزءاً من قبولي مهمة صعبة ومعقدة في العمل الوطني بمصر هذا التصور لهذه الغربة اللعينة والمفروضة علينا بقوة الإرهاب الصهيوني وبطشه .
لقد حاولت عبر أهلي وإخوتي في القطاع عمل تصريح لزيارة غزة ولكن دون جدوى فقد كان الرد بالرفض دائماً ، كما كان اسمي ضمن الكشف الأول لكوادر منظمة التحرير العائدين للوطن للمساهمة في بناء مؤسسات دولتنا الحلم ، وأيضاً ولسوء الحظ كنت ضمن العدد القليل من الذين رفضهم العدو الصهيوني ، وحاولنا قدر مستطاعنا العودة ولكن لم نفلح ، والى هنا فالأمر عادي وتجربة مر بها الكثيرون ، وأنا ضمن هؤلاء الحالمين بالعودة لجزء عزيز من الوطن اسمه غزة ، ويزيد من جمالية الحلم أن هناك موضع القداسة بالنسبة لي ومكان ميلادي وأملي في استكمال الحلم بالعودة لقريتي برقة داخل فلسطين المحتلة عام 1948 .
كان كل الناس يشجعوني على العودة ، وكانت غزة بالنسبة لي الحلم الوردي حتى بداية الشهر السادس من هذا العام الكئيب ، فبدأ الحلم يتحول إلى كابوس ، وتبدل موقف الأهل والأحباب والأصدقاء وحتى المعارف ، فأصبحت النصيحة تقول : لا تحضر ........ يا الهي كيف يصبح الوطن مكانا غريباً على النفس وكيف بعد ما الفته الروح وأصبح جزءاً منها ، كيف يتحول إلى شكل غريب من أشكال الماضي وأحياناً بلا ملامح .
حتى الناس العاديين لا ينصحوك بغزة ، وهي الجزء العزيز والغالي على قلوبنا ، كانت وما زالت ، لكنا ما عدنا نراها ولا نتقبلها كما كانت تمثل بالنسبة لنا سابقاً .
آه أيها الزمن الغريب كيف انقلب حالنا ؟ لماذا لا تكتمل أحلامنا... حتى البسيط منها ؟ ولماذا لا يرفق بنا ذوونا وأصحاب الأمر والنهي فينا فيشاركونا الحلم ؟..... أو حتى إحساسنا تجاه مكان عزيز علينا ، ويدعون انه عزيز عليهم كذلك ؟ لماذا لا يعرفوا أن ستين عاماً من القهر والبؤس والحرمان والحصار والمحطات والحجز والمطارات اللعينة ومفارز الأمن والقمع وافتقاد الأخ والأهل وكل من نحب كافية ليرحمونا من ثوريتهم الزائدة عن الحاجة وحماقاتهم الزائدة عن الحاجة أيضاً ؟ ، ألا يرون أنا نحب وطننا مثلهم وربما أكثر ، ألا يرون أن قصتنا مع الاحتلال وأمريكا ستطول ، فما بالهم يضيقون الخناق علينا بحرماننا حتى من حلم جميل نعيش عليه ؟
آه يا غزة هاشم كم ظلمك العدو... ولم يرحمك الصديق ، وكم أحبك الأخ فقتلك بحبه الزائد أو بحقده الزائد..... فالنتيجة سيان .
لا شيء يا غزة يساوي دمعة من عينيك الجميلتين فارفقي بنا ، وكفكفي الدمع ، فوالله ما زلت في سويداء القلب ونحبك حتى لو تلون وجهك وكسته الأحزان ، حتى لو عبث الصغار برموش عينيك لن يصدأ حلمنا .
يا غزة تعلمنا منك الصبر فتجلدي وربما تشرق شمس وطننا ذات يوم من بحرك ، لكنك حتماً ستعودي بجهد العقلاء وأصحاب الانتماء الحقيقي إلى ذات المكانة الحالمة والوردية في نفوسنا ولا يعود اسمك مقترناً بهذا الكم الهائل من الألم والضياع ورفض الأحباب لعودتنا ، ونعاهدك أيتها الحبيبة أن نبذل كل الجهد لرفع الحصار عنك ، ونمسح بأيدينا دموعك ، لتعودي كما كنت دوماً عروس فلسطين الأجمل .